الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
في قصص الأمم الماضية عِبرة لِمعتَبِر، وذِكرى لِمُدَّكِر، وسلوى لِمُضطهَد . ففي قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع فِرعون عِبْرة وعِظة وذِكرى وسَلوى .
في قصص الأمم الماضية عِبرة لِمعتَبِر، وذِكرى لِمُدَّكِر، وسلوى لِمُضطهَد .
ففي قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع فِرعون عِبْرة وعِظة وذِكرى وسَلوى .
لقد زَعم فرعون أنه إله من دون الله! {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وما أن أتمّ كلامه حتى بدأ تناقضه واضحا، وظهر ضعفه جلياً، فقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38].
فَلَم يكن لديه يقين، ولا كان على ثِقـة من أمرِه، وإنما يَظنّ ظـنّاً {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].
ولقد أبان فِرعون عن عَجزه حينما قال عن الفئة المؤمنة: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 54 - 56]!
واعجباً! أوَ يَخشى الإلـه أو يُحاذِر؟
ومِن مَن؟!
من فئة قليلة وَصَفها بالشّرذِمة القليلة !
ثم صرّح أنه أغاظته !
ثم أعلَن أنه يَخاف ويَحذَر !
ثم زَعم فرعون فيما بعد أنه وحده الحريص على مصالح الناس، وأن غيره دَعِـيّ !
وأنه حريص على دِين الناس من أن يُبدّل أو يُغيّر !
وأن موسى ومن معه جاءوا لتغيير دِين الناس! والتلاعب بهم!
فأراد أن يَقتُل موسى، واستهزأ بموسى بل وبِربِّـه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].
قال ابن كثير: "يَخشى فرعون أن يُضِلّ موسى الناس ويُغيّر رسومهم، وعاداتهم، وهذا كما يُقال في المثل: "صار فرعون مُذَكِّـرا"؛ يعني واعظا يُشفِق على الناس من موسى عليه السلام".
وها هو فِرعون يُظهر مكنون نفسه الضعيفة، ويُعلن عجزه وضعفه، فيقول عن موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} وليس هذا فَحسب بل ويَخشى من موسى {أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}.
أليس يَزعم أنه إلـه؟! أليس هو الْمُنادِي {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]؟
أليس هو القائل: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]؟
بلى.. هو القائل ذلك كله ..
ولكن من يُحارب الله يُخذل، ومَن يُغالِب الله يُغلَب، ومن يُعادي أولياء الله يُقصَم.
أليس فرعون هو صاحب تلك الدعاوى العريضة؟!
أليس الزاعم أنه إلـه؟
وأن تلك الأنهار تجري من تحته؟
وأنه خير من موسى؟
وأنه الحريص على مصالح الناس؟
وأنه يَخشى على دِين الناس من التغيير؟
وأنه يَخشى أن يُظِهر موسى الفساد في الأرض؟
فما بالـه لم يأخذ موسى أخذ عزيز مُقتَدر؟!
وما شأنه يستشير الناس؟!
وما لَـهُ يَخشى من فئة قليلة؟!
أين ذَهَبتْ عقول الناس عن هذا الضعف والعَجز؟
لقد تلاعَب بعقولهم بدعاوى برّاقـة، وأقوال ساذجة، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
حينما يكون الفساد فساداً واضحا بيِّـناً ظاهراً جلياً، فإنه لا يَخفى عوراه إلا على القوم الفاسِقين؛ لأنهم انغمسوا في الفِسق! والواقع في أصل بئر لا يَرى فوّهة البئر، والغارق في ظُلمات البحر لا يَرى سَطح البحر، والجالس في أصل جَبَل لا يَرى أوكار النسور، ولا مخابئ الوحوش !
أما الجالس على شَفير البئر، فإنه يَرى أبعادَها .
والواقف على ساحل البحر يَرى سطح البحر الممتدّ أمامه .
والصّاعد على قمّـة جَبل يَرى ما حوله، بل يَرى ما يُحيط به .
فإن نادى الذي في أعلى البئر على من في أسفلها: "اخرُج لترى النور".. فلا ريب إن أنكر ضوء الشمس مَن كان في القاع !
وإن رأى الواقف على ساحل البحر بحراً مُمتداً.. فلا عَجب أن لا يَراه من كان في أعماق البحر!
وإن صاح من في قمّـة الجَبَل، وأنذر الناس ما يَفجأهم مِن عَدوّ يَخافُون كَلَـبَـه وشرّه فلا غَرْو أن لا يرى من في سفح الجَبَل ما يَراه هو!
وهكذا هم دُعاة الحق ..
يَرون الشمس.. ويَنظرون في الأُفُـق..
يَنظرون بِنور الله، ويُبصِّرون الناس من العَمَى..
فإن أقَبل سيل عذاب أنذروا الناس
وإن ادلهمّ خَطْب حذّروا الناس
وإن أقَبَلتْ فتنة أرشدوا الناس
ومِن عَجَب أن أهل الفساد والرّيب، وأهل الفِسق والفُجور لا يَتعرّضون لمثل ما يتعرّض له دُعاة الحق، مع البون الشاسع، والفرق الواضح بينهما.
فـ "أهل العلم يَدْعُون من ضلّ إلى الهدى، ويَصبرون منهم على الأذى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضالّ جاهل قد هَدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم" كما قال عُمر رضي الله عنه.
وأهل الفِسق والفُجور يَدعُون الناس إلى النار، وإلى كل خُلُق ردئ، وإلى نَبْذ العفاف والحياء، وتَرْك الطُّهر، وهم مع ذلك يَجِدون سَنَداً ممن قلّ دِينه، وضعف إيمانه، وإلى هذا يُشير عُمر رضي الله عنه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك مِن جَلَد الفاجر وعَجز الثِّـقـة" .
ولم يَقِف الأمر عند هذا الحدّ من مُسانَدة أهل الفِسق، ومعاونة أهل الفُجور، ودَعم أهل الضلال، بل تعدّى الأمر ذلك إلى اتِّهام أهل الحق، ودُعاة العفاف والحياء..
فرُبّما اتُّهِموا في أعراضهم، أو في أديانهم..
وربما طُعِن في نواياهم..
وقديما اتّهم أهل الفُجور أهل الإيمان، ورَمَوهم بالعيب، وعابُوهم بما ليس بِعَيب، فقال أهل الفُجور عن أهل الطُّهر: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]!
متى كان الترفّع عن الدنايا عَيباً؟
ومتى كان تَرك الفاحشة نَقصاً؟
إلا عندما تنتكس الفِطر.. وتَمرض النفوس..
فترى تلك النفوس المريضة الفُجور حُريّة شخصية، والفاحشة ممارسة طبيعية!
وحينها يُصادِرون حُريّـة الطّرف الآخر؛ فيُحرِّمون عليه أن يكون عفيفاً مُتعفِّفاً، أو أن يكون طاهِراً صادِقاً..
وحينما تختلّ الموازين تكون كلمة الحق الصادِقة مِشعل فِتنة!
وتُلبَس الدعوة إلى الله لبوس الإفساد في الأرض!
فيُسعى لِقَتْل موسى!
ويُتآمر على يوسف لِـيُسجَن! إن هو أصرّ على العفاف! {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32]!
كل ذَنْبِـه أنه تمسّك بمبادئ الشَّرَف!
وأخذ بمعاقِـد العـزّ!
ونأى عن السوء والفحشاء!
أمَـا لو خَضع، أو كان دنيء الهمّـة، ولو تخلّى عن الشَّرَف، وتَرك العفاف، لكان مآله العاجل حضن زوجة عزيز مصر! ومآله الآجل الذل والهوان!
إلا أنه لما ترفّع عن تلك الدنايا، وتعالَى عن تلك الهَنَات، وتطهّر فَلم يُلمّ بِتلك القاذورات، وفضّل السّجن مع المبدأ على الشهوة مع الهَوان، لما فَعَل ذلك أورثه الله الأرض يتبوأ منها حيث يشاء {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، هذا كان في الدنيا، وجزاء الأخرى {وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57].
فطأطأت له رقاب العباد، وتواضعتْ له الناس، ومَلَك القلوب.
فليهنأ دُعاة الحق أنهم على الطريق الواضح وعلى الصراط المستقيم، وأن العاقبة لهم.
لقد كان ختام المطاف في قصة موسى عليه الصلاة والسلام أن قال الله: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وأن قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
وأما دُعاة الباطِل فهم على شفير جهنم وَقفوا.. وعلى أبوابها دَعوا ..
ولذلك كان نهاية المطاف في قصة فرعون وجنوده وأعوانه أن قال الله عنهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41].
ولو عَقَلتْ البشريّة هذه الحقائق، وأدرك الساسة هذه العِظات، لعلِموا أن الحق مُنتصر، وأن الباطل مُندحِر!
فـكُـن مع الحق وعلى الحق ولا تُبالي بالْخَلْق ..
ولئن ظَهَر فرعون بثياب الوعّاظ والْمُذَكِّرين، فقد بَرَز سَلَفه "إبليس" في ثياب الناصِحين، فَحَلَف وأقسم بالله إنه لمن الناصحين!
ومِن عجائب هذا الزمان أن يَتظاهر الزنادقة بلباس النصح والشفقة، ودعوى التوسّط والاعتدال!
نسبوهم إلى العِلم، ونِسبتهم إلى العلم كَنِسْبَةِ الثَّرى إلى الثُّريّـا!
وسمّوهم زوراً وبهتانا بـ "العلمانيين"!
يَطعنون في الدِّين باسم التجديد والعصرنة – زعموا – وهُم كما قال أبو زرعة رحمه الله، إذ كان يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقّ، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يُريدون أن يَجْرَحُوا شهودنا لِـيُبْطِلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة" [الكفاية في عِلم الرواية].
والله المستعان..